التلف .. التلف .. التلف .. التلفزيون
د. أحمد شراب
اختصاصي أمراض الأطفال و العلوم الوراثية
جدة - المملكة العربية السعودية
تابعنا في مقال سابق جانباً من الآثار السيئة للتلفزيون على الأطفال بشكل خاص ، و انتهينا للحديث عن مشاكل المحتوى التلفزيوني ، و تناولنا حينئذ المحتوى الإباحي الجنسي ، و التجاري الإعلاني ، و نكمل في هذا المقال ما كنا قد بدأنا به مستهلين بالحديث ، المحتوى أيضاً في جوانب أخرى ، حيث نضيف إلى المقال السابق ما يلي :
1- مادة العنف و المشاهد الإجرامية و التي توضع في إطار مشوق و مثير .. سواء من خلال أفلام العنف و الرعب .. أو من خلال البرامج التي تهتم بالإجرام و الجرائم ، و بمعدل قد يصل إلى نحو ألف – ألفي مشهد سنوياً (و قد حسبت المعدل بمتابعة أحد الأفلام العنيفة على أحد القنوات الفضائية التي لا داعي لذكر اسمها هنا على أية حال) الحالة التي يجد معها الطفل المحب للعنف كل سلواه و متعته ، و يساعد على تكريس هذا العنف و استثماره في غير أوجهه ، و تتحول بذلك الطاقات ، و تستغل الرغبات و التحولات الفيسيولوجية التي يمكن أن يمر بها أي فتى في طور البلوغ و المراهقة .. فتؤدي إلى نتائج لا يقبل بها ، فالتلفزيون أيضاً أحد الوسائل التي يستقي منها الطفل تربيته و تهذيبه و سلوكه ، أو أنها تؤثر على هذه الجوانب عنده بشكل سلبي و سيئ .
2- هذا عن العنف .. فماذا عن الرعب ؟ يمكن أن يثير التلفزيون الرعب لدى العديد من الأطفال ذوي الشخصيات المهيأة لذلك ، و ذلك من خلال ما يتفنن به محترفو التأثيرات الخاصة ! و ما يتنافس به المخرجون في محاولة إظهار المشهد المرعب و كأنه حقيقة واقعة لا جدال فيها ..! و من خلال علامات الخوف و الهلع الشديد لدى الممثلين الذين "يخلصون" في أدائهم لهذه المشاهد ، و يجب ألا يغيب عن البال أن الطفل لا ينظر إلى هذه المشاهد بعين الكبار .. الذين عادة ما يشجعون أنفسهم أمام كل هذا الرعب بتذكر أن كل ذلك خيال و لا يمكن أن يتحقق ، في حين أن الطفل بحاجة إلى من يطمئنه و يذكره بأن هذا محض افتراء و خدع لا أساس لها من الواقع في شيء ، و لذا تراه عادة ما يباشر بطرح الأسئلة بمجرد انتهاء العرض سعياً منه للحصول على إجابة مطمئنة ، و في النهاية ينسى بعض الأطفال ما رأوه و تأثيره عند هذا الحد .. في حين يراكم البعض الآخر هذه الخبرات ليشد بعضها أزر بعض .. و النتيجة طفل يخاف من ظله ..!
3- إن الكوميديا المقدمة للأطفال أيضاً لا تخلو من مشاكل بشكل أو بآخر ، فهي أولاً و أخيراً كوميديا البقاء ، فالبطل لا يتعرض إلى أي مشكلة أو خطر ، و إن تعرض له فإنه غالباً ما ينجو بالصدفة أو بأسباب أخرى قد لا تكون منطقية ، أو قد يكون البطل ، و هو طفل يتراوح عمره بين 4 – 12 سنة ، جريئاً و خارقاً إن صح التعبير بحيث أنه يتمكن من القضاء بمفرده على مجموعة من اللصوص في قالب كوميدي .. ظريف حقاً ، لكنه بعيد عن الواقع . لا بد من الانتباه إلى أن الأطفال يتأثرون بشكل مباشر بما يرون على شاشة التلفزيون ، بل إنه يمكن أن يعيش الدور تماماً ، و يحاول أن يقوم بتطبيقه ، و لا شك في أننا سمعنا في الآونة الأخيرة عن الطفلة المصرية الصغيرة التي شنقت نفسها مقلدة بذلك أحد المشاهد في الأفلام الغربية ، و قد كانت أمها خارج المنزل ، و لم تعتقد أختاها الأصغر سناً منها أنها قد ماتت فعلاً فبقيتا تلعبان معها و هي معلقة في ذلك الحبل ظناً منهما أنها تمثل ذلك أيضاً كما شاهدنه في الفيلم ، و بقي الكل كذلك حتى عادت الأم و روّعت بما شاهدت ، علماً أن محاولات الانتحار أحد الآثار الجانبية السيئة لمشاهدة التلفزيون ، إذ تخبر الطفل بمعنى هذه الكلمة ، و يمكن أن تشير عليه ببعض الطرق الكفيلة بتحقيق المحاولات ، فيجرب الطفل إحدى هذه المحاولات في سعي منه لجلب انتباه الأهل إليه أو توبيخهم بشكل غير مباشر على سوء معاملته ، أو حتى دون أن يعرف ما السبب !.
4- ناهيك عن الأخطاء العلمية ، و مخالفات المنطق المعروف ، و السماح للخرافات أن تنال من مبادئ علمية أساسية تحت مسمى الخيال الخصب و توسيع أفق الأطفال ! و إنما هم بذلك يصلون بالطفل إلى المرحلة التي يفقد فيها الحد الدقيق بين التفكير السليم و التفكير الخاطئ ، بين ما يجب أن يقبله الطفل ليكون متفتح الذهن ، و ما لا يجب أن يقبل به .. حتى لا تغدو أفكارهم ضحلة و مخافة للمنطق المقبول . إن الخطورة التي يحملها التلفزيون على التطور المعرفي للآطفال هو أهم و أكبر و أوضح الآثار التي تخلفها هذه الوسيلة الإعلامية على عقولهم، و لنكون واقعيين .. فإن التلفزيون يحمل معه بعض الآثار الجيدة في هذا المجال ، و ذلك من خلال بعض البرامج التعليمية الهادفة ، و تبقى العلاقة المباشرة بين درجة مشاهدة التلفزيون و تأثر النمو الأكاديمي و التفوق المدرسي بهذه الدرجة غير واضحة بشكل كلي بعد ، بسبب قلة الدراسات و صعوبة حصر العوامل الثقافية و التعليمية و العمرية و البيئية على التحصيل العلمي و الذكاء و الأداء الأكاديمي المدرسي عند الأطفال ، إلا أن هناك بعض الآراء التي تعتقد أنه يمكن لفترة مشاهدة تمتد لأكثر من ساعتين في اليوم أن تؤثر على التفوق المدرسي ، و الأداء المدرسي عند المتفوقين دراسياً .
المشاكل الصحية :
حدث و لا حرج عن المشاكل الصحية الجسدية التي يمكن أن تصيب الطفل الذي يقضي الكثير من وقته على التلفزيون ، ففي دراسة أجريت بهذا الصدد تبين أن حوالي 50% من الأطفال الذين يقضون أربع ساعات في اليوم في مشاهدة التلفاز سيصابون بارتفاع معدلات الكوليسترول لديهم ، و ذلك بسبب الخمول و قلة الحركة المرافق لمشاهدة التلفزيون ، و هذا الارتفاع يمكن أن يكون في 30 – 40 % من الحالات على الحدود المـَـرَضية الدنيا . و جميعنا لا يغفل مشكلة السهر الطويل على برامج معينة أو مسلسلات أو أفلام و غيرها ، و ما يسببه السهر من مشاكل و اضطرابات ذهنية و عصبية و جسدية ، منها ارتفاع معدلات الإصابة بالقرحات الهضمية ، نقص التركيز و اضطرابات المحاكمة و التفكير ، التأثير المباشر على الأداء المدرسي في اليوم التالي لليلة السهر ، و يبرز هذا التأثير في حال كان على الطالب امتحان يؤديه في ذلك اليوم ، اضطرابات الساعة البيولوجية مع ما يمكن أن تجره هذه الحالة من اضطرابات أخرى في كافة أنظمة الجسم .
و هل ننسى مشاكل العيون و أسواء الانكسار ؟! .. بالطبع لا .. فالتلفزيون جهاز يحجب البعيد عن ناظري الطفل .. و يجعل نظره محدوداً بمسافة بسيطة ، يوصي بها الخبراء بحيث تكون 6 أمتار على الأقل في التلفزيونات الصغيرة و المتوسطة الحجم ، و ربما عند الجيران فيما أصبح يسمى بالمسرح المنزلي ، و لكن فليخبرني أحد أن شخصاً ما في عالمنا هذا يلتزم تماماً بالمسافة الموصى بها ! أو حتى بنصفها .. ! فهذه الشاشة الأليفة الرمادية الفضية .. تطلق إشعاعات و تؤدي إلى مفعولات إليكترونية لا يجب أن ننساها لضعف أو انعدام تأثيرها .. إنها إشعاعات ضارة أحياناً من الممكن أن تنبعث حتى و الجهاز مطفأ ، و من الممكن لها أن تكون موجات قصيرة عالية التردد تؤذي العيون و الجلد و الأغشية المخاطية ..!
و لا يمكن أن نغفل طبعاً الاضطرابات الغذائية التي يمكن أن تؤثر على الأطفال ، فمن ناحية يمكن أن يتشجع الأطفال على الشراهة في الطعام و تناول الأغذية منخفضة القيمة الغذائية ، أو الإكثار من تناول الطعام ، أو التأثر ببعض الإعلانات التجارية التي تروج لمنتجات غذائية عالية المحتوى من السعرات الحرارية ، الأمر الذي سيسهم في تطور حالة السمنة لدى هذه الفئة من الأطفال ، من ناحية أخرى يمكن أن يتأثر بعض الأطفال و لا سيما المراهقون منهم بنماذج الشخصيات التي يحبونها .. و قد يؤدي التعارض بين ما يطمح إليه المراهق .. وبين الواقع المؤقت الذي يعيش فيه إلى تناقض حيال التصور الذاتي للشكل الخارجي .. الأمر الذي يمكن أن ينتهي ببعض الاضطرابات الغذائية السلوكية مثل القهم العصبي Anorexia Nervosa ، و ذلك خاصة عند المراهقات اللواتي يطمحن للحصول على صورة خارجية مماثلة لبعض الممثلات أو عارضات الأزياء ، و قد تنشغل المراهقة بهذا الأمر إلى الدرجة التي تتناسى معها أنها فعلاً في وضع صحي جيد فتمارس أقسى أنواع الحميات الغذائية إلى أن يتطور الأمر نحو القهم العصبي .
إن قضاء كل هذا الوقت أمام التلفزيون .. يعني أن الطفل لن يجد الوقت في نشاط آخر من الممكن جداً أن يكون أكثر فائدة و أهمية .. كاللعب مع الأطفال الآخرين و الأصدقاء في الحديقة ، أو مطالعة بعض الكتب ، أو ممارسة الرياضة ، أو القيام ببعض الفعالية الاجتماعية ، بل إن ذلك يمكن أن ينافس فراغ الطفل اللازم لكي يقوم ببعض الأمور الضرورية مثل استذكار الدروس أو تنمية المهارات أو ممارسة الهوايات .
و العمل ..؟
أولاً و قبل كل شيء لا بد من الاقتناع بمجمل الخطر الكامن في التلفزيون و مشاهدته ، و لا سيما في عصر المعلومات حيث لم يكد يبق هناك من متسع لأي قمر صناعي جديد حول الأرض ، و زاد عدد القنوات الفضائية و الأرضية عن العشرة آلاف قناة ، سوى القنوات الخاصة و المغمورة . و ثانياً : لا بد من ترشيد استهلاك التلفزيون لعقول و أجساد الطفال .. و أعتقد أن السماح للطفل بمشاهدة التلفزيون لفترة لا تزيد عن 1 – 2 ساعة في اليوم هو أمر مطلوب ، على أن يشاهد الطفل التلفزيون بمرافقة أحد ذويه ، و يشاهد ما يناسبه و يناسب عقله و إدراكه ، و أن تكون مشاهدته هذه صحية من الناحية الجسدية و النفسية ، فيمتنع عن تناول الكثير من المأكولات الخفيفة أثناء المشاهدة ، و يجلس على بعد معين من الشاشة بحيث يكون نظره عمودياً عليها و ليس مائلاً **اوية ما ، و تتم مناقشة و تفنيد ما يعرض عليه ، حتى و إن لم يبدأ هو في نقاش ذلك ، و ألا يسمح له بمسابقة عمره المعرفي و التطوري و الجنسي من خلال مشاهدته لبعض البرامج الإباحية ، أو المنطوية على أخطاء تربوية و اجتماعية و معرفية و غيرها . أنا لا أقول بأنه يجب أن تحجر المعرفة التلفزيونية على الأطفال ، بل أقول لا بد من أن يتم ذلك في الوقت و المكان و الوضع المناسب ، و يراعى الانتباه لبعض الأطفال الذين يشكون من ، أو لديهم استعداد للإصابة بالسمنة ، القهم العصبي ، أو الذين لديهم بعض المشاكل و الصعوبات في الأداء المدرسي ، و ينتبه الطبيب إلى ضرورة أن يتودد إلى الطفل قيد البحث ، بحيث يحاول أن يسبر غوره و يتعرف إلى سلوكياته و مظاهر شخصيته و طباعه و مدى تأثره بثقافة من الثقافات أو بسلوك معين ، فإن هذا قد يكون المفتاح السري لتشخيص سلوك عدواني مستبطن ، أو فهم القهم العصبي ، أو إدمان المخدرات أو شرب السجائر أو محاولات الانتحار و غيرها .و لا بد من تفعيل دور كل من المجتمع و المدرسة و الأسرة طبعاً فيما يخص محاربة الآثار الهدامة الناجمة عن التمثل ببعض النماذج و الشخصيات في التلفزيون و محاربة أنواع السلوك الناجمة عن ذلك مثل تدخين السجائر و شرب الكحول و الممارسات الجنسية الخاطئة و خلافها ، و قد يتم سن بعض التشريعات و القوانين على غرار ما يحصل في بعض دول العالم ، حيث هناك بعض القوانين التي تلزم القنوات التلفزيونية بعدم عرض المواد المؤذية للأطفال و سيما في ساعات ذروة المشاهدة و في الإجازات الأسبوعية ، و عدم تجاوز فترة الإعلانات أكثر من 5 % من المدة الكاملة للعرض أو البرنامج و غير ذلك من الإجراءات ، و يفضل أن يبقى جهاز التحكم بكل من المستقبل (الريسيفير) و التلفزيون بيد ولي الأمر ، و يجب ألا يمنع الطفل من المشاهدة و يجبر على مغادرة الغرفة في حين أن ذويه و قدواته ماكثون للمشاهدة ، و لينتبه إلى خطر كبير حول هذه النقطة ، و هي ضرورة ألا يأخذ الوالدان التلفزيون إلى غرفة نومهما أو إلى غرفة محظور على الأطفال دخولها .. بحجة منع الأطفال من المشاهدة ، فإن ذلك سيربي تناقضاً كبيراً عند الطفل يطال سلوكه العام بعد ذلك ، و الحل أن يمتنع الآباء عما يمنعون أطفالهم من مشاهدته ..! أو أن يتخيروا المشاهدة في أوقات انشغال أطفالهم بالنوم أو المدرسة أو اللعب ، و لا بأس من الإجابة عن بعض التساؤلات بالشكل الذي يؤمن للطفل جواباً صحيحاً و خالياً في الوقت نفسه من الإشارات أو التعابير الفاضحة أو الجنسية . بهذه الإجراءات و المقترحات .. يمكن أن نستفيد قدر المستطاع من هذا الجهاز و نخفف من أضراره إلى الحد الأدنى ، لأننا لا نستطيع في الوقت الراهن التخلي بالشكل الكامل عن هذه الأداة الإعلامية الهامة ، و كل ما هنالك أنه ينبغي لنا أن نرشد استخداماتها ريثما يأتينا المخترعون بوسائل أخرى فيما عدا التلفزيون و الدش و الإنترنت نحار فيها و في محتواها بداية ً ، و من ثم نرشد استخدامها هي الأخرى ... !
و دمتم بعافية .